الأكراد يعانون، ومن المفروض أن تعترف كل الدول المعنية السابقة واللاحقة بمعاناتهم، وأن تعمل على إزالتها.
خلق الاستعمار مشكلة للأكراد ولأغلب الدول التي يوجدون فيها، واستنزف بذلك الطاقات من خلال صراعات وحروب ما كان يجب أن تنشب.
أهل المنطقة جميعا وقعوا أسرى المشاكل التي صنعها الاستعمار وتركها خلفه
لتأكل خيرات المنطقة ولتذهب بأبنائها ضحايا، ولتوقع البغضاء والكراهية بين
الشعوب. وبين الفينة والأخرى يتردد في الإعلام اقتتال بين أكراد يبحثون عن
الذات ودول تتمسك بتكاملها الجغرافي والسكاني.
وعلى مدى سنين طويلة خاض الأكراد معارك ضد الجيش العراقي، وقاموا
بعمليات عسكرية ضد منشآت ومؤسسات عراقية، ومنذ سنوات أيضا والأكراد في
إيران يقومون ببعض التمرد ويتحرك الجيش الإيراني ضدهم، أما في تركيا التي
يوجد فيها أكبر عدد من الأكراد فحدث ولا حرج.
لقد تكبد الأكراد خسائر كثيرة جدا في النفوس والأموال والممتلكات، واضطر
أكراد كثيرون إلى اللجوء إلى دول الجوار، وتكبدت الجيوش الكثير من الخسائر
والمعاناة، ودفع مدنيون ثمنا باهظا في معظم الدول التي يوجد فيها الأكراد.
وما زلنا نشهد حتى الآن صراعا دمويا هنا وهناك، ونشهد مسارح حربية تكلف الكثير ماديا ومعنويا.
هناك مشكلة قائمة اسمها المشكلة الكردية، والذي لا يقر بوجودها إنما
يحاول دسّ رأسه في الرمال، فهناك حوالي عشرين مليون كردي (نحن لا نعرف
الرقم بالتحديد) ينظرون إلى أنفسهم على أنهم قوم وشعب واحد ومن حقهم كباقي
الأقوام أن يعيشوا معا مستقلين في هدوء وسلام على منطقة جغرافية لهم.
إنهم أكراد أصحاب مشاعر قومية، وتنغرس فيهم مشاعر الانتماء والرغبة في
النهوض وتأكيد الذات، وما دامت هذه المشاعر موجودة، فإن علينا أن نتوقع
انبثاقها إلى عمل ملموس أو حراك بين الحين والآخر.
وبما أنها مشاعر قومية فإنها -لا مفر- ستصطدم بالدولة التي يسود فيها
قوم غير أكراد. فهم سيصطدمون بالأتراك وبالعرب والإيرانيين والأرمن.
الدول التي تعتبر المناطق الكردية جزءا من أراضيها لا تقبل بالتمرد ولا
بالثورة المسلحة أو المقاومة، ودائما لديها الاستعداد لمواجهة ذلك بالقوة.
ليس من المتوقع أن تستسلم الدول المعنية أمام الأكراد ولا أن تقدم لهم ما
يريدون على طبق من فضة.
لا أرى في الأفق أن دولة ستقول للأكراد: "نعم أنتم شعب مظلوم، وأنا
أوافق لكم على الاستقلال". ذهبت بعض الدول إلى إعطاء الأكراد حكما ذاتيا
محدودا، لكنه لم يصل إلى درجة عالية من تأكيد الذات الكردية، ولم يشمل كل
الأكراد.
وما دام الأمر كذلك فإنه من المتوقع أن يبقى النزيف مستمرا، وأن يُذبح
الأكراد والعرب والإيرانيون والأتراك. وهذا أمر غير منطقي ومن المفروض أنه
مرفوض من شعوب المنطقة العربية الإسلامية وحكوماتها.
نحن شعوب نتحدث دائما عن الحرية والانعتاق من نير المستعمرين والمحتلين،
ونجاهد ضد المستغلين الذين ينهبون الثروات ويزرعون بذور الفتن والفساد بين
شعوب المنطقة ودولها. نحن في المنطقة العربية أحق الناس بالاعتراف بحقوق
الآخرين والدفاع عنها، وإذا كنا لا نريد أن نفعل ذلك فإن علينا أن نتحمل
الثمن.
ربما يهدأ الأكراد حينا، لكن المشكلة ستبقى قائمة وستنفجر بين الحين
والآخر، وسنبقى جميعا في صراع دموي لسنا بحاجة إليه، ويجب ألا نسعى إليه.
الأكراد شعب واحد، ومن حقهم أن يعيشوا شعبا واحدا في إقليمهم الجغرافي
الذي يوجدون فيه. أنا بوصفي عربيا، لي مآخذ على الأكراد وعلى رأسها التعاون
مع إسرائيل والولايات المتحدة، لكنني أدرك أن أغلب القادة العرب يتحالفون
مع إسرائيل، ويقومون على خدمة الولايات المتحدة.
وعلى الرغم من ذلك لا بد من البحث عن حل للمشكلة الكردية، ويجب ألا يبقى الأكراد ملاحقين ومطاردين من قبل عدد من الحكومات.
المنطق يقول إنه يجب البحث عن حل يجنب الأكراد والدول التي يوجدون فيها الآلام والأحزان وسفك الدماء.
لدي ثلاث خيارات لحل المشكلة:
أولا: اندماج دول المنطقة في دولة إسلامية واحدة تعترف بالقوميات وبحقوق
غير المسلمين أفرادا ومؤسسات على قدم المساواة مع المسلمين. وعندها يصبح
الأكراد كغيرهم من القوميات، سادة في دولتهم الواسعة.
وفكرة الاندماج هذه تنسجم مع مسألتين:
أ- تتطلع شعوب المنطقة عموما وبعض الأنظمة السائدة إلى نوع من الوحدة على
أسس إسلامية أو قومية وذلك بسبب مشاعر القربى والعديد من الهموم والمصالح
المشتركة.
على الأقل هناك حركات إسلامية في إيران والعراق وتركيا وسوريا تنادي
بضرورة وحدة المسلمين في كل مكان. وهذا يعني أن الوحدة الإسلامية ستلقي
خلفها كل النزاعات القومية القائمة حاليا، وتجعل الخلافات حول الحدود أمرا
من الماضي.
ب- الوحدة هي سمة العلاقات بين دول الجوار مستقبلا لأن العالم لا يحجز
الآن مكانا للدول أو الكيانات الصغيرة. بل المستقبل هو للتكتلات الكبيرة
التي تشكل قوة اقتصادية وثقافية وأخلاقية وعسكرية كبيرة تستطيع أن تصمد
أمام المنافسات العالمية الضخمة التي تتصدرها الصين والهند والولايات
المتحدة والاتحاد الأوروبي.
ستتحطم الدول الصغيرة تحت الأرجل وستبقى عبارة عن ملحق هامشي لهذه القوة
أو تلك لكي تؤمن لها بعض الغذاء والحماية من الاعتداءات الخارجية.
العاقلون على الساحة العربية والساحة الإسلامية هم الذين يفكرون في
إزالة الأنظمة القبلية والقطرية لصالح الوحدة الشاملة، على الأقل في
المجالات الحياتية الحيوية.
ثانيا: قيام دولة كردية مستقلة في المناطق التي يشكل الأكراد فيها
أكثرية، أي أن تُنتزع المناطق ذات الأغلبية الكردية من جغرافية الدول
القائمة لصالح إقامة دولة كردية.
يوجد الأكراد في منطقة جغرافية واضحة ويسهل تحديدها وهم يتداخلون مع
العرب أو الأتراك أو الإيرانيين في بعض المواقع، لكن بصورة عامة هناك مناطق
واسعة ومعروفة يشكل فيها الأكراد أغلبية ساحقة.
ولنا أن نسأل: ماذا كنا نحن دول المنطقة سنفعل لو قام الاستعمار في
بداية القرن العشرين بتأسيس دولة كردية؟ لم نكن لنعمل شيئا وكنا سنقبل
الأمر الواقع كما هو. لماذا نقبل تقسيم بلاد الشام؟ ولماذا نقبل حدودا
فرضها الاستعمار علينا؟
شعوب المنطقة وأنظمتها تعاني من مشكلة خطيرة جدا وهي تقديس ما فرضه
الاستعمار علينا من تجزئة وحدود سياسية، وكل واحد فرح بما أعطاه الاستعمار
الغربي.
فإذا كنا سنقبل ما كان يمكن أن يصنعه الاستعمار في بلادنا فلماذا لا
نبادر إلى تصحيح كل خلل صنعه لنا الاستعمار وجعله مادة لنشوب الحروب فيما
بيننا؟
ثالثا: بقاء المناطق الكردية على ما هي عليه الآن، مع إقامة منطقة كردية
تتمتع بحكم ذاتي واسع باتفاق الدول التي يوجد فيها الأكراد بتواصل جغرافي
عبر الحدود. أي أن تتبنى الدول المعنية مجتمعة حكما ذاتيا كرديا متواصلا
جغرافيا محكوما بسيادات متعددة.
وتكون هناك حكومة حكم ذاتي مركزية ويختارها الأكراد بإرادتهم السياسية الحرة، ولكن دون نزع سيادة كل دولة.
أنا لست متحمسا للاقتراح الثاني الذي يدعو إلى إقامة دولة كردية مستقلة
لأنه صعب المنال بسبب تمسك كل دولة بالحدود القائمة حاليا. الاقتراح معقول
وأخلاقي لكنه مطروح في زمن تعاني فيه العقلانية من ضيق كبير، وهو أخلاقي
لأنه يتعامل مع الأكراد على قدم المساواة مع القوميات الأخرى.
يعاني هذا الاقتراح من مشكلة تكريس التجزئة التي لم تخدم العرب والمسلمين ولن تخدمهم مستقبلا.
الاقتراح الأول الداعي إلى الوحدة هو الأسهل والأنسب في عالم لم يعد
يحترم الكيانات الصغيرة، لكنه يحتاج إلى واقع ثقافي وفكري مختلف عما هو
سائد الآن.
العصبوية والتشنج القومي والقبلي ما زالت تسيطر على العلاقات العامة في
مجتمعات دولنا في المنطقة العربية والإسلامية، وحتى يكون بمقدورنا الوحدة
لا بد أن تبادر الأنظمة إلى تبني برامج ثقافية جديدة تطيح بعصبوية الماضي
لصالح الانفتاح الأخوي والاحترام المتبادل.
أما الاقتراح الثالث فهو ممكن أيضا على الرغم من تعقيده، وتطبيقه أكثر
سهولة من الاندماج. وهو معقد لأنه يحمل مستويين: مستوى حكم ذاتي مركزي يشمل
كل المناطق الكردية عبر الحدود، ومستوى المحافظة على سيادات الدول المعنية
على المناطق الكردية داخل حدودها السياسية القائمة حاليا.
هناك تداخل كبير بين صلاحيات الحكم الذاتي المدني وبين أعمال السيادة
لكل دولة، وهناك صعوبة في تحديد متى تبدأ أعمال الحكم الذاتي ومتى تنتهي
أعمال السيادة.
والمشكلة الصعبة جدا تتمثل في انتقال الأكراد من منطقة كردية إلى أخرى،
وفي جمعهم في بوتقة مدنية واحدة وتوزيعهم في نفس الوقت على سيادات متعددة.
يحتاج الاقتراح الثالث إلى دراسات ومشاورات مكثفة، لكنه عملي وممكن خاصة عندما تتوفر النية لحل المشكلة الكردية.
قد تتعدد الاقتراحات حول حل المشكلة الكردية، لكن الأهم هو نوايا الدول
التي يوجد فيها الأكراد. هل لدى الدول القائمة حاليا نية في الاعتراف
بالأكراد باعتبارهم قومية لها حق الاستقلال وتأكيد الذات، أو حق المشاركة
في الحكم وبناء الدولة على قدم المساواة مع غير الأكراد؟
هل لدى هذه الدول الاستعداد للاعتراف بآلام الأكراد وأحزانهم وبحقوقهم؟
هل لديها نية في التعامل على أساس الاحترام المتبادل والعمل الجماعي
والتعاون من أجل مستقبل أفضل لكل القوميات؟
هناك مشكلة حقيقية قائمة وهي أن هذه الدول لا ترى أن للأكراد حقا يجب أن
يدافعوا عنه، بل ترى أن عليهم أن ينصاعوا لما تفصله لهم الدولة المركزية.
وهذا إجحاف وظلم. لا يلوح في الأفق وجود سياسيين عاقلين يسعون نحو حل
المشكلة الكردية، وأغلب السياسيين يضعون أيديهم على الزناد.
من المهم جدا أن لا تأخذ الأكراد العزة بالإثم فيذهبوا إلى التعاون مع
من لا يضمر لهم ولشعوب المنطقة خيرا. إذا كان للأكراد مشكلة مع الحكومة في
بغداد فإن الحل لا يأتي عبر إسرائيل والولايات المتحدة. أميركا استعملت
الأكراد في شمال العراق، وهم طوعوا أنفسهم لهذا الاستعمال، وكانوا عونا
للغزو الأميركي على العراق.
ويتردد الآن أن رجال الموساد الصهيوني يعملون في شمال العراق ضد إيران،
ومن المحتمل أن تنطلق طائرات إسرائيلية لضرب إيران من المناطق الكردية.
هذه أميركا التي قالت لهم إنها صديقة لهم سمحت لتركيا باستعمال القوة
العسكرية ضد الأكراد الذين يُظن أنهم يختبئون في شمال العراق. أميركا تدعم
الأكراد في العراق وتقتلهم في تركيا.
من المهم أن يدرك الأكراد أن إسرائيل وأميركا تعملان من أجل مصالحهما وليس دفاعا عن مبادئ وقيم إنسانية وأخلاقية.
وإذا كان مطلوبا من العرب والإيرانيين والأتراك الاعتراف بحقوق الأكراد
والبحث معا عن حل لمشكلتهم، فإنه مطلوب من الأكراد أيضا البقاء في المنطقة
وألا يكونوا أدوات لغزاة محتلين.
عبد الستار قاسم
المصدر: الجزيرة
خلق الاستعمار مشكلة للأكراد ولأغلب الدول التي يوجدون فيها، واستنزف بذلك الطاقات من خلال صراعات وحروب ما كان يجب أن تنشب.
أهل المنطقة جميعا وقعوا أسرى المشاكل التي صنعها الاستعمار وتركها خلفه
لتأكل خيرات المنطقة ولتذهب بأبنائها ضحايا، ولتوقع البغضاء والكراهية بين
الشعوب. وبين الفينة والأخرى يتردد في الإعلام اقتتال بين أكراد يبحثون عن
الذات ودول تتمسك بتكاملها الجغرافي والسكاني.
وعلى مدى سنين طويلة خاض الأكراد معارك ضد الجيش العراقي، وقاموا
بعمليات عسكرية ضد منشآت ومؤسسات عراقية، ومنذ سنوات أيضا والأكراد في
إيران يقومون ببعض التمرد ويتحرك الجيش الإيراني ضدهم، أما في تركيا التي
يوجد فيها أكبر عدد من الأكراد فحدث ولا حرج.
لقد تكبد الأكراد خسائر كثيرة جدا في النفوس والأموال والممتلكات، واضطر
أكراد كثيرون إلى اللجوء إلى دول الجوار، وتكبدت الجيوش الكثير من الخسائر
والمعاناة، ودفع مدنيون ثمنا باهظا في معظم الدول التي يوجد فيها الأكراد.
وما زلنا نشهد حتى الآن صراعا دمويا هنا وهناك، ونشهد مسارح حربية تكلف الكثير ماديا ومعنويا.
هناك مشكلة قائمة اسمها المشكلة الكردية، والذي لا يقر بوجودها إنما
يحاول دسّ رأسه في الرمال، فهناك حوالي عشرين مليون كردي (نحن لا نعرف
الرقم بالتحديد) ينظرون إلى أنفسهم على أنهم قوم وشعب واحد ومن حقهم كباقي
الأقوام أن يعيشوا معا مستقلين في هدوء وسلام على منطقة جغرافية لهم.
إنهم أكراد أصحاب مشاعر قومية، وتنغرس فيهم مشاعر الانتماء والرغبة في
النهوض وتأكيد الذات، وما دامت هذه المشاعر موجودة، فإن علينا أن نتوقع
انبثاقها إلى عمل ملموس أو حراك بين الحين والآخر.
وبما أنها مشاعر قومية فإنها -لا مفر- ستصطدم بالدولة التي يسود فيها
قوم غير أكراد. فهم سيصطدمون بالأتراك وبالعرب والإيرانيين والأرمن.
الدول التي تعتبر المناطق الكردية جزءا من أراضيها لا تقبل بالتمرد ولا
بالثورة المسلحة أو المقاومة، ودائما لديها الاستعداد لمواجهة ذلك بالقوة.
ليس من المتوقع أن تستسلم الدول المعنية أمام الأكراد ولا أن تقدم لهم ما
يريدون على طبق من فضة.
لا أرى في الأفق أن دولة ستقول للأكراد: "نعم أنتم شعب مظلوم، وأنا
أوافق لكم على الاستقلال". ذهبت بعض الدول إلى إعطاء الأكراد حكما ذاتيا
محدودا، لكنه لم يصل إلى درجة عالية من تأكيد الذات الكردية، ولم يشمل كل
الأكراد.
وما دام الأمر كذلك فإنه من المتوقع أن يبقى النزيف مستمرا، وأن يُذبح
الأكراد والعرب والإيرانيون والأتراك. وهذا أمر غير منطقي ومن المفروض أنه
مرفوض من شعوب المنطقة العربية الإسلامية وحكوماتها.
نحن شعوب نتحدث دائما عن الحرية والانعتاق من نير المستعمرين والمحتلين،
ونجاهد ضد المستغلين الذين ينهبون الثروات ويزرعون بذور الفتن والفساد بين
شعوب المنطقة ودولها. نحن في المنطقة العربية أحق الناس بالاعتراف بحقوق
الآخرين والدفاع عنها، وإذا كنا لا نريد أن نفعل ذلك فإن علينا أن نتحمل
الثمن.
ربما يهدأ الأكراد حينا، لكن المشكلة ستبقى قائمة وستنفجر بين الحين
والآخر، وسنبقى جميعا في صراع دموي لسنا بحاجة إليه، ويجب ألا نسعى إليه.
الأكراد شعب واحد، ومن حقهم أن يعيشوا شعبا واحدا في إقليمهم الجغرافي
الذي يوجدون فيه. أنا بوصفي عربيا، لي مآخذ على الأكراد وعلى رأسها التعاون
مع إسرائيل والولايات المتحدة، لكنني أدرك أن أغلب القادة العرب يتحالفون
مع إسرائيل، ويقومون على خدمة الولايات المتحدة.
وعلى الرغم من ذلك لا بد من البحث عن حل للمشكلة الكردية، ويجب ألا يبقى الأكراد ملاحقين ومطاردين من قبل عدد من الحكومات.
المنطق يقول إنه يجب البحث عن حل يجنب الأكراد والدول التي يوجدون فيها الآلام والأحزان وسفك الدماء.
لدي ثلاث خيارات لحل المشكلة:
أولا: اندماج دول المنطقة في دولة إسلامية واحدة تعترف بالقوميات وبحقوق
غير المسلمين أفرادا ومؤسسات على قدم المساواة مع المسلمين. وعندها يصبح
الأكراد كغيرهم من القوميات، سادة في دولتهم الواسعة.
وفكرة الاندماج هذه تنسجم مع مسألتين:
أ- تتطلع شعوب المنطقة عموما وبعض الأنظمة السائدة إلى نوع من الوحدة على
أسس إسلامية أو قومية وذلك بسبب مشاعر القربى والعديد من الهموم والمصالح
المشتركة.
على الأقل هناك حركات إسلامية في إيران والعراق وتركيا وسوريا تنادي
بضرورة وحدة المسلمين في كل مكان. وهذا يعني أن الوحدة الإسلامية ستلقي
خلفها كل النزاعات القومية القائمة حاليا، وتجعل الخلافات حول الحدود أمرا
من الماضي.
ب- الوحدة هي سمة العلاقات بين دول الجوار مستقبلا لأن العالم لا يحجز
الآن مكانا للدول أو الكيانات الصغيرة. بل المستقبل هو للتكتلات الكبيرة
التي تشكل قوة اقتصادية وثقافية وأخلاقية وعسكرية كبيرة تستطيع أن تصمد
أمام المنافسات العالمية الضخمة التي تتصدرها الصين والهند والولايات
المتحدة والاتحاد الأوروبي.
ستتحطم الدول الصغيرة تحت الأرجل وستبقى عبارة عن ملحق هامشي لهذه القوة
أو تلك لكي تؤمن لها بعض الغذاء والحماية من الاعتداءات الخارجية.
العاقلون على الساحة العربية والساحة الإسلامية هم الذين يفكرون في
إزالة الأنظمة القبلية والقطرية لصالح الوحدة الشاملة، على الأقل في
المجالات الحياتية الحيوية.
ثانيا: قيام دولة كردية مستقلة في المناطق التي يشكل الأكراد فيها
أكثرية، أي أن تُنتزع المناطق ذات الأغلبية الكردية من جغرافية الدول
القائمة لصالح إقامة دولة كردية.
يوجد الأكراد في منطقة جغرافية واضحة ويسهل تحديدها وهم يتداخلون مع
العرب أو الأتراك أو الإيرانيين في بعض المواقع، لكن بصورة عامة هناك مناطق
واسعة ومعروفة يشكل فيها الأكراد أغلبية ساحقة.
ولنا أن نسأل: ماذا كنا نحن دول المنطقة سنفعل لو قام الاستعمار في
بداية القرن العشرين بتأسيس دولة كردية؟ لم نكن لنعمل شيئا وكنا سنقبل
الأمر الواقع كما هو. لماذا نقبل تقسيم بلاد الشام؟ ولماذا نقبل حدودا
فرضها الاستعمار علينا؟
شعوب المنطقة وأنظمتها تعاني من مشكلة خطيرة جدا وهي تقديس ما فرضه
الاستعمار علينا من تجزئة وحدود سياسية، وكل واحد فرح بما أعطاه الاستعمار
الغربي.
فإذا كنا سنقبل ما كان يمكن أن يصنعه الاستعمار في بلادنا فلماذا لا
نبادر إلى تصحيح كل خلل صنعه لنا الاستعمار وجعله مادة لنشوب الحروب فيما
بيننا؟
ثالثا: بقاء المناطق الكردية على ما هي عليه الآن، مع إقامة منطقة كردية
تتمتع بحكم ذاتي واسع باتفاق الدول التي يوجد فيها الأكراد بتواصل جغرافي
عبر الحدود. أي أن تتبنى الدول المعنية مجتمعة حكما ذاتيا كرديا متواصلا
جغرافيا محكوما بسيادات متعددة.
وتكون هناك حكومة حكم ذاتي مركزية ويختارها الأكراد بإرادتهم السياسية الحرة، ولكن دون نزع سيادة كل دولة.
أنا لست متحمسا للاقتراح الثاني الذي يدعو إلى إقامة دولة كردية مستقلة
لأنه صعب المنال بسبب تمسك كل دولة بالحدود القائمة حاليا. الاقتراح معقول
وأخلاقي لكنه مطروح في زمن تعاني فيه العقلانية من ضيق كبير، وهو أخلاقي
لأنه يتعامل مع الأكراد على قدم المساواة مع القوميات الأخرى.
يعاني هذا الاقتراح من مشكلة تكريس التجزئة التي لم تخدم العرب والمسلمين ولن تخدمهم مستقبلا.
الاقتراح الأول الداعي إلى الوحدة هو الأسهل والأنسب في عالم لم يعد
يحترم الكيانات الصغيرة، لكنه يحتاج إلى واقع ثقافي وفكري مختلف عما هو
سائد الآن.
العصبوية والتشنج القومي والقبلي ما زالت تسيطر على العلاقات العامة في
مجتمعات دولنا في المنطقة العربية والإسلامية، وحتى يكون بمقدورنا الوحدة
لا بد أن تبادر الأنظمة إلى تبني برامج ثقافية جديدة تطيح بعصبوية الماضي
لصالح الانفتاح الأخوي والاحترام المتبادل.
أما الاقتراح الثالث فهو ممكن أيضا على الرغم من تعقيده، وتطبيقه أكثر
سهولة من الاندماج. وهو معقد لأنه يحمل مستويين: مستوى حكم ذاتي مركزي يشمل
كل المناطق الكردية عبر الحدود، ومستوى المحافظة على سيادات الدول المعنية
على المناطق الكردية داخل حدودها السياسية القائمة حاليا.
هناك تداخل كبير بين صلاحيات الحكم الذاتي المدني وبين أعمال السيادة
لكل دولة، وهناك صعوبة في تحديد متى تبدأ أعمال الحكم الذاتي ومتى تنتهي
أعمال السيادة.
والمشكلة الصعبة جدا تتمثل في انتقال الأكراد من منطقة كردية إلى أخرى،
وفي جمعهم في بوتقة مدنية واحدة وتوزيعهم في نفس الوقت على سيادات متعددة.
يحتاج الاقتراح الثالث إلى دراسات ومشاورات مكثفة، لكنه عملي وممكن خاصة عندما تتوفر النية لحل المشكلة الكردية.
قد تتعدد الاقتراحات حول حل المشكلة الكردية، لكن الأهم هو نوايا الدول
التي يوجد فيها الأكراد. هل لدى الدول القائمة حاليا نية في الاعتراف
بالأكراد باعتبارهم قومية لها حق الاستقلال وتأكيد الذات، أو حق المشاركة
في الحكم وبناء الدولة على قدم المساواة مع غير الأكراد؟
هل لدى هذه الدول الاستعداد للاعتراف بآلام الأكراد وأحزانهم وبحقوقهم؟
هل لديها نية في التعامل على أساس الاحترام المتبادل والعمل الجماعي
والتعاون من أجل مستقبل أفضل لكل القوميات؟
هناك مشكلة حقيقية قائمة وهي أن هذه الدول لا ترى أن للأكراد حقا يجب أن
يدافعوا عنه، بل ترى أن عليهم أن ينصاعوا لما تفصله لهم الدولة المركزية.
وهذا إجحاف وظلم. لا يلوح في الأفق وجود سياسيين عاقلين يسعون نحو حل
المشكلة الكردية، وأغلب السياسيين يضعون أيديهم على الزناد.
من المهم جدا أن لا تأخذ الأكراد العزة بالإثم فيذهبوا إلى التعاون مع
من لا يضمر لهم ولشعوب المنطقة خيرا. إذا كان للأكراد مشكلة مع الحكومة في
بغداد فإن الحل لا يأتي عبر إسرائيل والولايات المتحدة. أميركا استعملت
الأكراد في شمال العراق، وهم طوعوا أنفسهم لهذا الاستعمال، وكانوا عونا
للغزو الأميركي على العراق.
ويتردد الآن أن رجال الموساد الصهيوني يعملون في شمال العراق ضد إيران،
ومن المحتمل أن تنطلق طائرات إسرائيلية لضرب إيران من المناطق الكردية.
هذه أميركا التي قالت لهم إنها صديقة لهم سمحت لتركيا باستعمال القوة
العسكرية ضد الأكراد الذين يُظن أنهم يختبئون في شمال العراق. أميركا تدعم
الأكراد في العراق وتقتلهم في تركيا.
من المهم أن يدرك الأكراد أن إسرائيل وأميركا تعملان من أجل مصالحهما وليس دفاعا عن مبادئ وقيم إنسانية وأخلاقية.
وإذا كان مطلوبا من العرب والإيرانيين والأتراك الاعتراف بحقوق الأكراد
والبحث معا عن حل لمشكلتهم، فإنه مطلوب من الأكراد أيضا البقاء في المنطقة
وألا يكونوا أدوات لغزاة محتلين.
عبد الستار قاسم
المصدر: الجزيرة