بلاد النهرين، وبذور الديمقراطية الأولى!
نبتت
أولى بذورالديمقراطية (الحرية) على أرض بلاد مابين النهرين (ميزوبوتاميا)
Mesopotamia بأشكالها كافة، إن كانت على صعيد السياسة والحكم أو على صعيد
حقوق الانسان أو في القضاء أو في مجال الدين والاسطورة .
كان يعتقد أن
النظام الديمقراطي الذي تميزت به (أثينا) هو ظاهرة أغريقية صرفة، لكن
المكتشفات الاثرية قد أثبتت أن السومريين الأوائل قد سبقوهم بهذا المضمار .
فالرافدينيون الأوائل قد بنوا أول مجتمع سياسي منظم (دول المدن السومرية)،
وأقاموا نظام الملوكية وأوجدوا أو طبقوا في بعض الاحيان نظرية الحق الالهي
المقدس للملك قبل (توماس هوبز) الانكليزي بأكثر من (4500) عام وبنوا أول
دولة وطنية موحدة (سرجون / حمورابي) .
فالمجتمع السومري لعصر فجر
السلالات كان أبعد مايكون عن البدائية فقد ساده التنظيم المتكامل، بل وحتى
الزائد عن اللزوم، وكان الشعب السومري شعباً صارماً ذا عقلية (بيروقراطية)
فترك لنا آلاف من السجلات والقوائم والقسائم والعقود التي ترهق الباحث في
قرائتها... وكان يملك أطلاق تسمية (الاشتراكية الثيوقراطية) على المجتمع
السومري الذي تركزت أغلب وسائل انتاجه بيد (دولة قيادة الكهنة). فأمتلك
بالصدفة وثيقة تعطينا قائمة مستمدة (غير متقطعة) بأسماء الملوك الذين حكموا
منذ باكورة العهود الملكية (عصر فجر السلالات) ولغاية القرن (الثامن ق.م)،
تلك هي (قائمة الملوك السومريين) الشهيرة، أو مايطلق عليها (إثبات الملوك)
والتي عني بها البروفسور (جاكوبسن) والمكونة من (15) نص طيني... إن ماجاء
بهذه الوثيقة متوافق مع الاساطير الرافدينية والتي تذكر بأن الملكية هبطت
من (السماء) لأول مرة على مدينة أريدو وإنها وصلت إليها بزورق شراعي قبل
الطوفان.. وللمرة الثانية بعد الطوفان هبطت على مدينة كيش .
تؤرخ هذه
القائمة أن أول ملك ذكر أسمه هو (أنميبر أكيسي) عام (2700 ق.م) ملك كيش،
وبذلك يكون هذا الملك أقدم ملك سومري يعرف بصورة أكيدة حتى هذا الوقت. إن
المفاهيم الفكرية في الاساطير السومرية تقول أن البشر عند الآلهة.. ليس
أكثر من قطيع يحتاج الى (رعاة) حكام وملوك تختارهم وتنصبهم الآلهة لتنفيذ
القانون السماوي.. فمنذ وقت بعيد وبعد خلق البشرية مباشرةً تقريباً، أنزل
من السماء (التاج المجيد) أو (العرش المقدس) للملوكية.. ومنذ ذلك الحين
فصاعداً قاد الملوك الواحد تلو الآخر دويلات ومدن بلاد وادي الرافدين
بالنيابة عن الآلهة في السماء .
وهكذا برزت الى الوجود نظرية (الملكية
ذات التفويض الآلهي) ذات النهج الديمقراطي وأصبحت شائعة في وادي الرافدين
منذ الألف (الثالث ق.م)، خلاف نظرية (الحكم الآلهي المطلق) والشائعة في مصر
الفرعونية.. ذات النهج الاستبدادي (الدكتاتوري) .
أستعملت في الكتابات
المسمارية الاولى عدد من المصطلحات للدلالة على أشكال قيادة الدولة ومنها
(الاينسي) أو السيد أو(الاين) وربما تعني الرئيس وكذلك (لوكال) الرجل
العظيم أو الملك .
جاء في قصة الخليقة البابلية أن مصدر السلطة للآلهة
(مردوخ) إله بابل العظيم متأتية من انتخابه من قبل مجلس أو مجمع (الآلهة
السومري المقدس) أو (البانثيون السومري).. حيث قال مردوخ (أعقدوا مجلسكم)
!.. فاجتمعت الآلهة في وليمة لتقرير المصير ووهبوا مردوخ القوى الملكية
وشارة السلطة للأنتصار على آلهة الشر (تيامة). وكمكافئة له على أنتصاره
شيدت له الآلهة معبد (مردوخ الكبير) في بابل. وهذا بالتأكيد هو أنعكاس بما
يجري على الأرض في ظروف مشابهة (مصيرية) .
كانت الآلهة في هذا المجلس
تدير الامور بشكل (ديمقراطي) حيث كانت تؤخذ أصوات الحاضرين للموافقة على
الاقتراحات المعروضة على هذا المجلس بأغلبية الاصوات .
تقول نظرية
البروفسور(جاكوبسن) في جامعة شيكاغو : أن الاساطير السومرية القديمة قد
ذكرت أن (مجمع الآلهة السومري المقدس) قد ضم الآلهة ألأناث والذكور وهذا
دليل مساهمة النساء في القيادة.. وهذا بالتأكيد أنعكاس لصورة المجتمعات
التي دونت تلك الأساطير .
جاء في الأساطير السومرية : إن السيادة
والسلطة في الحكم كانت تتركز في مجلس المواطنين العام (الاونكين) Unkin
والذي يتكون من مجلسين، الاول مجلس الكبار في السن أو الشيبة (اماشورو)
والثاني مجلس القادرين جسمياً (العموم) أو (كورش أورو).. ولدينا مايشير إلى
أنه كانت هناك هيئات منبثقة من المجتمع ساهمت في الحكم مع الحاكم.. ألا
وهي ماأطلق عليه (الاونكين) أو دائرة الشعب .
إن النظام السياسي لسومر
كان أصلاً يتسم بما يطلقون عليه أسم (الديمقراطية البدائية)، ويقال أن
(الملكية) لم تظهر إلاّ في وقت متأخر من العصر الشبيه بالتاريخي (3100 –
3500 ق.م)، واستناداً إلى هذا الرأي فأن الشؤون العامة في كل مدينة كانت
تدار من قبل مجلسين أحدهما من المسنين، في حين ضم الآخر الرجال القادرين
على حمل السلاح أي الشباب وربما ضم بعض النساء أيضاً .
والمجلسان
يشكلان مايطلق عليه الآن (البرلمان) أو (الجمعية الوطنية) ويقول (جاكوبسن)
إن احدى وظائف (المجلس العام) اختيار الموظف المسمى (أين) والذي كان
بالدرجة الاولى موظف ذو أختصاص (طقسي) حيث لعب دور حيوي في ظاهرة الزواج
المقدس .
وفي عصر مبكر حصل بعض التقسيم بين الوظائف الكهنوتية والمدنية لـ (أين) الذي لم يعد يعيش في المعبد بل في قصر خاص به .
وفي
حالة الطوارىء كالحرب أو الفيضان كان المجلسان يمنحان الرجل المنتخب
(اللوكال) الصلاحيات كافة لتمكينه من أدارة شؤون المدينة في تلك الظروف،
ويبدوا أن الرجل المنتخب (لوكال) قد احتفظ بالصلاحيات الممنوحة له حتى بعد
زوال الظروف الطارئة، بل ذهب إلى أبعد من ذلك فقد قلص من نفوذ المجلسين
وجعلهما تابعين له .
ولم يكن منصب (الاين) ولا (اللوكال) في الاصل وراثي أو دائمي.. وهكذا تحول نظام الحكم (المنتخب) الديمقراطي إلى نظام حكم ملكي .
لايتطرق
أي شك حيال وجود (المجالس المحلية) التي كانت تلعب دوراً في توجيه حكومة
كل مدينة، غير أن تلك المجالس كما يشير الى ذلك الاساتذة المختصون لم تكن
أكثر من (هيئات استشارية) خالصة تدعى للأنعقاد من قبل الحكام في حالات
نادرة .
عثرعلى نص أكدي مدون عليه أن الملك سرجون الاكدي قد ادعى أن
الآلهة عشتار اختارته ليكون ملكاً.. وهذا أقدم نص تاريخي يسجل دعوى تلغي
الحكم والسلطة من الآلهة ودعوى كون الملك نائباً عن الآلهة في الأرض وخول
الملك سرجون أن يجعل الحكم وراثي .
كان الملك في بابل يصفع على خده حتى
تسيل دموعه وهي علامة رضا الالهة، وهذا يجري أمام الشعب أثناء أحتفالات عيد
رأس السنة البابلية (عيد اكيتو) الأول من نيسان.. ليعترف بخطاياه أمام
الآلهة. وهذه الظاهرة تعطي صورة عن العدالة والحرية والمساواة التي كانت
سائدة في المجتمع البابلي .
ورد إلينا رقيم طيني مؤرخ حوالي (2650 ق.م)
يشير إلى كيفية نشوب الحرب بين دولة (كيش) وملكها (اكا) ابن الملك (انميبر
آكيسي)، ودولة الوركاء وملكها (كلكامش) ابن الملك (لوكال بندا) بطل الملحمة
المشهورة بأسمه.. فقد أرسل ملك كيش (اكا) بعد أن لمس تصاعد نفوذ الوركاء
الى ملكها بوجوب الخضوع ودفع الجزية.. ونتيجة لهذا الفعل فقد أستدعى
(كلكامش) مجلس المدينة أو مايسمى (الجمعية الوطنية) للأنعقاد والتي تضم
مجلس الشيوخ والشباب، وكان جواب مجلس (الشيوخ) هو الاستجابة لمطالب ملك
كيش، الامر الذي لم يتقبله (كلكامش).. فعرضه على مجلس (الشباب) حيث وافق
هذا المجلس على رأي الملك ورفضوا أنذار ملك كيش وصمموا على القتال .
إن
هذه القضية بالتحديد.. تدعونا للتسائل.. من أين جاءت فكرة الديمقراطية
للعراقين القدماء ؟ وكيف عرفوا بمجلس الشيوخ.. ومجلس الشباب الذي استشاره
كلكامش لأتخاذ قرار الحرب ؟ كان مجلس شورى دولة المدينة المنتخب أيام ملك
الوركاء (كلكامش) هو أقدم نموذج للنظام البرلماني والديمقراطية في العالم
القديم .
عثر على وثيقة تعود للملك (اوروكاجينا) أمير لكش (2300 ق.م)
وهذه الوثيقة تدعى (اصلاحات اوروكاجينا) وهي تنادي صراحةً بأهمية حقوق
الانسان وتاكيدها على حريته، حيث أن كلمة حرية (امارجي) Ama – ar – gi
باللغة السومرية.. ذكرت لأول مرة في تاريخ البشرية كعنوان لهذه الاصلاحات.
ويتضح لنا من أصلاحات هذا الملك بأن فكرة (الحرية) في حدود القانون كانت
معروفة لدى السومريين... وعلى هذا الاساس يعتقد الباحثون بأن (اوروكاجينا)
أول داعية للسلام بين البشر .
هناك مقولة شائعة بين البابليين تدل على
رقي وسمو وأصالة المجتمع البابلي وهي تقول (حتى الكلب يصبح في بابل حراً
طليقاً) وهذه المقولة تعكس جوهر الفكر الانساني المتطور والمتحضر للانسان
الرافديني في مجال الحرية وحقوق الانسان .
عثر على لوح في مدينة (نفر)
مؤرخ في (1850 ق.م) مدون عليه قضية جنائية أطلق عليها (الزوجة المتسترة
بالاخبار عن الجريمة). والقضية تقول أن هناك ثلاثة رجال قتلوا موظف بالمعبد
والسبب مجهول، أخبروا زوجته بالجريمة ولكن الزوجة لم تبلغ السلطات، حتى
علم الملك بتلك الجريمة، فألقي القبض على الرجال الثلاثة ولحقت بهم الزوجة،
أحال الملك السومري تلك القضية إلى (مجمع المواطنين) والمكون من مجلسي
الشيوخ والشباب والمنتخبين من قبل الشعب . (تسعة) أعضاء من الجمعية قالوا
بأن الزوجة مشتركة بالجريمة، لكن أثنان منهم دافعوا عن الزوجة.. فأنتهت
القضية ببرائة الزوجة .
عرضت ترجمة هذا النص على رئيس جامعة بنسلفانيا
للحقوق لأعطاء رأيه بهذه القضية ومدى صحة الحكم.. فقال : إن الحكم الذي صدر
عن (مجمع الشعب) مشابه تماماً للأحكام القضائية المعاصرة .
هذه الوثيقة
تلقي الضوء على سيادة القانون وقوته المستمدة من سلطة القضاء النابعة من
(مجمع المواطنين) باعتباره أعلى سلطة في الدولة السومرية القديمة .
هذه القضية تبين أشاعة بعض المفاهيم القضائية والمشابهة لمثيلاتها المعاصرة في الوقت الحاضر منها :
1- وجود علاقة بين القضاء (السلطة القضائية) والجمعية الوطنية (السلطة التشريعية) .
2- وجود أكثر من قاضي (أعضاء الجمعية) قد حكموا بهذه القضية .
3- الدفاع عن المتهم .
4- (تبليغ) اشعار المتهم والشهود بالحضور للمحكمة .
5- وجوب حضور المتهم أثناء النطق بالحكم .
إن
كل ماذكر من حيثيات هذه القضية هو مدون على ذلك الرقيم الطيني وهذا يعكس
مدى الرقي والتطور ورصانة النظام القضائي الرافديني القديم على الرغم من أن
عمر تلك الوثيقة (4000 عام) من الآن.
المصادر
1- آثار بلاد الرافدين : سيتون لويد، ترجمة د. سامي سعيد، دار الرشيد للنشر 1980
2- المعتقدات الآرامية : د. خزعل الماجدي، دار الشروق للنشر والتوزيع .
3- جورج رو : العراق القديم، ترجمة وتعليق حسين علوان حسين، دار الحرية للطباعة بغداد 1984
4- تاريخ حضارة وادي الرافدين ج2 : د. أحمد سوسة، دار الحرية للطباعة بغداد 1986
5- حضارات الوطن العربي القديمة أساساً للحضارة اليونانية : د. سامي سعيد، بيت الحكمة – بغداد 2003
نبتت
أولى بذورالديمقراطية (الحرية) على أرض بلاد مابين النهرين (ميزوبوتاميا)
Mesopotamia بأشكالها كافة، إن كانت على صعيد السياسة والحكم أو على صعيد
حقوق الانسان أو في القضاء أو في مجال الدين والاسطورة .
كان يعتقد أن
النظام الديمقراطي الذي تميزت به (أثينا) هو ظاهرة أغريقية صرفة، لكن
المكتشفات الاثرية قد أثبتت أن السومريين الأوائل قد سبقوهم بهذا المضمار .
فالرافدينيون الأوائل قد بنوا أول مجتمع سياسي منظم (دول المدن السومرية)،
وأقاموا نظام الملوكية وأوجدوا أو طبقوا في بعض الاحيان نظرية الحق الالهي
المقدس للملك قبل (توماس هوبز) الانكليزي بأكثر من (4500) عام وبنوا أول
دولة وطنية موحدة (سرجون / حمورابي) .
فالمجتمع السومري لعصر فجر
السلالات كان أبعد مايكون عن البدائية فقد ساده التنظيم المتكامل، بل وحتى
الزائد عن اللزوم، وكان الشعب السومري شعباً صارماً ذا عقلية (بيروقراطية)
فترك لنا آلاف من السجلات والقوائم والقسائم والعقود التي ترهق الباحث في
قرائتها... وكان يملك أطلاق تسمية (الاشتراكية الثيوقراطية) على المجتمع
السومري الذي تركزت أغلب وسائل انتاجه بيد (دولة قيادة الكهنة). فأمتلك
بالصدفة وثيقة تعطينا قائمة مستمدة (غير متقطعة) بأسماء الملوك الذين حكموا
منذ باكورة العهود الملكية (عصر فجر السلالات) ولغاية القرن (الثامن ق.م)،
تلك هي (قائمة الملوك السومريين) الشهيرة، أو مايطلق عليها (إثبات الملوك)
والتي عني بها البروفسور (جاكوبسن) والمكونة من (15) نص طيني... إن ماجاء
بهذه الوثيقة متوافق مع الاساطير الرافدينية والتي تذكر بأن الملكية هبطت
من (السماء) لأول مرة على مدينة أريدو وإنها وصلت إليها بزورق شراعي قبل
الطوفان.. وللمرة الثانية بعد الطوفان هبطت على مدينة كيش .
تؤرخ هذه
القائمة أن أول ملك ذكر أسمه هو (أنميبر أكيسي) عام (2700 ق.م) ملك كيش،
وبذلك يكون هذا الملك أقدم ملك سومري يعرف بصورة أكيدة حتى هذا الوقت. إن
المفاهيم الفكرية في الاساطير السومرية تقول أن البشر عند الآلهة.. ليس
أكثر من قطيع يحتاج الى (رعاة) حكام وملوك تختارهم وتنصبهم الآلهة لتنفيذ
القانون السماوي.. فمنذ وقت بعيد وبعد خلق البشرية مباشرةً تقريباً، أنزل
من السماء (التاج المجيد) أو (العرش المقدس) للملوكية.. ومنذ ذلك الحين
فصاعداً قاد الملوك الواحد تلو الآخر دويلات ومدن بلاد وادي الرافدين
بالنيابة عن الآلهة في السماء .
وهكذا برزت الى الوجود نظرية (الملكية
ذات التفويض الآلهي) ذات النهج الديمقراطي وأصبحت شائعة في وادي الرافدين
منذ الألف (الثالث ق.م)، خلاف نظرية (الحكم الآلهي المطلق) والشائعة في مصر
الفرعونية.. ذات النهج الاستبدادي (الدكتاتوري) .
أستعملت في الكتابات
المسمارية الاولى عدد من المصطلحات للدلالة على أشكال قيادة الدولة ومنها
(الاينسي) أو السيد أو(الاين) وربما تعني الرئيس وكذلك (لوكال) الرجل
العظيم أو الملك .
جاء في قصة الخليقة البابلية أن مصدر السلطة للآلهة
(مردوخ) إله بابل العظيم متأتية من انتخابه من قبل مجلس أو مجمع (الآلهة
السومري المقدس) أو (البانثيون السومري).. حيث قال مردوخ (أعقدوا مجلسكم)
!.. فاجتمعت الآلهة في وليمة لتقرير المصير ووهبوا مردوخ القوى الملكية
وشارة السلطة للأنتصار على آلهة الشر (تيامة). وكمكافئة له على أنتصاره
شيدت له الآلهة معبد (مردوخ الكبير) في بابل. وهذا بالتأكيد هو أنعكاس بما
يجري على الأرض في ظروف مشابهة (مصيرية) .
كانت الآلهة في هذا المجلس
تدير الامور بشكل (ديمقراطي) حيث كانت تؤخذ أصوات الحاضرين للموافقة على
الاقتراحات المعروضة على هذا المجلس بأغلبية الاصوات .
تقول نظرية
البروفسور(جاكوبسن) في جامعة شيكاغو : أن الاساطير السومرية القديمة قد
ذكرت أن (مجمع الآلهة السومري المقدس) قد ضم الآلهة ألأناث والذكور وهذا
دليل مساهمة النساء في القيادة.. وهذا بالتأكيد أنعكاس لصورة المجتمعات
التي دونت تلك الأساطير .
جاء في الأساطير السومرية : إن السيادة
والسلطة في الحكم كانت تتركز في مجلس المواطنين العام (الاونكين) Unkin
والذي يتكون من مجلسين، الاول مجلس الكبار في السن أو الشيبة (اماشورو)
والثاني مجلس القادرين جسمياً (العموم) أو (كورش أورو).. ولدينا مايشير إلى
أنه كانت هناك هيئات منبثقة من المجتمع ساهمت في الحكم مع الحاكم.. ألا
وهي ماأطلق عليه (الاونكين) أو دائرة الشعب .
إن النظام السياسي لسومر
كان أصلاً يتسم بما يطلقون عليه أسم (الديمقراطية البدائية)، ويقال أن
(الملكية) لم تظهر إلاّ في وقت متأخر من العصر الشبيه بالتاريخي (3100 –
3500 ق.م)، واستناداً إلى هذا الرأي فأن الشؤون العامة في كل مدينة كانت
تدار من قبل مجلسين أحدهما من المسنين، في حين ضم الآخر الرجال القادرين
على حمل السلاح أي الشباب وربما ضم بعض النساء أيضاً .
والمجلسان
يشكلان مايطلق عليه الآن (البرلمان) أو (الجمعية الوطنية) ويقول (جاكوبسن)
إن احدى وظائف (المجلس العام) اختيار الموظف المسمى (أين) والذي كان
بالدرجة الاولى موظف ذو أختصاص (طقسي) حيث لعب دور حيوي في ظاهرة الزواج
المقدس .
وفي عصر مبكر حصل بعض التقسيم بين الوظائف الكهنوتية والمدنية لـ (أين) الذي لم يعد يعيش في المعبد بل في قصر خاص به .
وفي
حالة الطوارىء كالحرب أو الفيضان كان المجلسان يمنحان الرجل المنتخب
(اللوكال) الصلاحيات كافة لتمكينه من أدارة شؤون المدينة في تلك الظروف،
ويبدوا أن الرجل المنتخب (لوكال) قد احتفظ بالصلاحيات الممنوحة له حتى بعد
زوال الظروف الطارئة، بل ذهب إلى أبعد من ذلك فقد قلص من نفوذ المجلسين
وجعلهما تابعين له .
ولم يكن منصب (الاين) ولا (اللوكال) في الاصل وراثي أو دائمي.. وهكذا تحول نظام الحكم (المنتخب) الديمقراطي إلى نظام حكم ملكي .
لايتطرق
أي شك حيال وجود (المجالس المحلية) التي كانت تلعب دوراً في توجيه حكومة
كل مدينة، غير أن تلك المجالس كما يشير الى ذلك الاساتذة المختصون لم تكن
أكثر من (هيئات استشارية) خالصة تدعى للأنعقاد من قبل الحكام في حالات
نادرة .
عثرعلى نص أكدي مدون عليه أن الملك سرجون الاكدي قد ادعى أن
الآلهة عشتار اختارته ليكون ملكاً.. وهذا أقدم نص تاريخي يسجل دعوى تلغي
الحكم والسلطة من الآلهة ودعوى كون الملك نائباً عن الآلهة في الأرض وخول
الملك سرجون أن يجعل الحكم وراثي .
كان الملك في بابل يصفع على خده حتى
تسيل دموعه وهي علامة رضا الالهة، وهذا يجري أمام الشعب أثناء أحتفالات عيد
رأس السنة البابلية (عيد اكيتو) الأول من نيسان.. ليعترف بخطاياه أمام
الآلهة. وهذه الظاهرة تعطي صورة عن العدالة والحرية والمساواة التي كانت
سائدة في المجتمع البابلي .
ورد إلينا رقيم طيني مؤرخ حوالي (2650 ق.م)
يشير إلى كيفية نشوب الحرب بين دولة (كيش) وملكها (اكا) ابن الملك (انميبر
آكيسي)، ودولة الوركاء وملكها (كلكامش) ابن الملك (لوكال بندا) بطل الملحمة
المشهورة بأسمه.. فقد أرسل ملك كيش (اكا) بعد أن لمس تصاعد نفوذ الوركاء
الى ملكها بوجوب الخضوع ودفع الجزية.. ونتيجة لهذا الفعل فقد أستدعى
(كلكامش) مجلس المدينة أو مايسمى (الجمعية الوطنية) للأنعقاد والتي تضم
مجلس الشيوخ والشباب، وكان جواب مجلس (الشيوخ) هو الاستجابة لمطالب ملك
كيش، الامر الذي لم يتقبله (كلكامش).. فعرضه على مجلس (الشباب) حيث وافق
هذا المجلس على رأي الملك ورفضوا أنذار ملك كيش وصمموا على القتال .
إن
هذه القضية بالتحديد.. تدعونا للتسائل.. من أين جاءت فكرة الديمقراطية
للعراقين القدماء ؟ وكيف عرفوا بمجلس الشيوخ.. ومجلس الشباب الذي استشاره
كلكامش لأتخاذ قرار الحرب ؟ كان مجلس شورى دولة المدينة المنتخب أيام ملك
الوركاء (كلكامش) هو أقدم نموذج للنظام البرلماني والديمقراطية في العالم
القديم .
عثر على وثيقة تعود للملك (اوروكاجينا) أمير لكش (2300 ق.م)
وهذه الوثيقة تدعى (اصلاحات اوروكاجينا) وهي تنادي صراحةً بأهمية حقوق
الانسان وتاكيدها على حريته، حيث أن كلمة حرية (امارجي) Ama – ar – gi
باللغة السومرية.. ذكرت لأول مرة في تاريخ البشرية كعنوان لهذه الاصلاحات.
ويتضح لنا من أصلاحات هذا الملك بأن فكرة (الحرية) في حدود القانون كانت
معروفة لدى السومريين... وعلى هذا الاساس يعتقد الباحثون بأن (اوروكاجينا)
أول داعية للسلام بين البشر .
هناك مقولة شائعة بين البابليين تدل على
رقي وسمو وأصالة المجتمع البابلي وهي تقول (حتى الكلب يصبح في بابل حراً
طليقاً) وهذه المقولة تعكس جوهر الفكر الانساني المتطور والمتحضر للانسان
الرافديني في مجال الحرية وحقوق الانسان .
عثر على لوح في مدينة (نفر)
مؤرخ في (1850 ق.م) مدون عليه قضية جنائية أطلق عليها (الزوجة المتسترة
بالاخبار عن الجريمة). والقضية تقول أن هناك ثلاثة رجال قتلوا موظف بالمعبد
والسبب مجهول، أخبروا زوجته بالجريمة ولكن الزوجة لم تبلغ السلطات، حتى
علم الملك بتلك الجريمة، فألقي القبض على الرجال الثلاثة ولحقت بهم الزوجة،
أحال الملك السومري تلك القضية إلى (مجمع المواطنين) والمكون من مجلسي
الشيوخ والشباب والمنتخبين من قبل الشعب . (تسعة) أعضاء من الجمعية قالوا
بأن الزوجة مشتركة بالجريمة، لكن أثنان منهم دافعوا عن الزوجة.. فأنتهت
القضية ببرائة الزوجة .
عرضت ترجمة هذا النص على رئيس جامعة بنسلفانيا
للحقوق لأعطاء رأيه بهذه القضية ومدى صحة الحكم.. فقال : إن الحكم الذي صدر
عن (مجمع الشعب) مشابه تماماً للأحكام القضائية المعاصرة .
هذه الوثيقة
تلقي الضوء على سيادة القانون وقوته المستمدة من سلطة القضاء النابعة من
(مجمع المواطنين) باعتباره أعلى سلطة في الدولة السومرية القديمة .
هذه القضية تبين أشاعة بعض المفاهيم القضائية والمشابهة لمثيلاتها المعاصرة في الوقت الحاضر منها :
1- وجود علاقة بين القضاء (السلطة القضائية) والجمعية الوطنية (السلطة التشريعية) .
2- وجود أكثر من قاضي (أعضاء الجمعية) قد حكموا بهذه القضية .
3- الدفاع عن المتهم .
4- (تبليغ) اشعار المتهم والشهود بالحضور للمحكمة .
5- وجوب حضور المتهم أثناء النطق بالحكم .
إن
كل ماذكر من حيثيات هذه القضية هو مدون على ذلك الرقيم الطيني وهذا يعكس
مدى الرقي والتطور ورصانة النظام القضائي الرافديني القديم على الرغم من أن
عمر تلك الوثيقة (4000 عام) من الآن.
المصادر
1- آثار بلاد الرافدين : سيتون لويد، ترجمة د. سامي سعيد، دار الرشيد للنشر 1980
2- المعتقدات الآرامية : د. خزعل الماجدي، دار الشروق للنشر والتوزيع .
3- جورج رو : العراق القديم، ترجمة وتعليق حسين علوان حسين، دار الحرية للطباعة بغداد 1984
4- تاريخ حضارة وادي الرافدين ج2 : د. أحمد سوسة، دار الحرية للطباعة بغداد 1986
5- حضارات الوطن العربي القديمة أساساً للحضارة اليونانية : د. سامي سعيد، بيت الحكمة – بغداد 2003