فاروق رشيد
الأسطورة العقائدية
يحمل لنا القرآن آية تدل على وجود الأساطير الطقوسية عند العرب، فقد قال تعالى: (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية).
تؤكد
هذه الآية الكريمة أن مرحلة الغناء والرقص المصاحب للعبادات الطقوسية قد
عرفها العرب كما عرفها غيرهم، ولكن بينما احتفظ غيرهم بها ذابت عند العرب
ولم يعد منها إلا ما قد تدلنا عليه بعض أسجاع الكهنة المتبقية في كتب
التاريخ والسيرة والأدب.
((وعلى توقيع الدفوف والصفير تقول إحدى أسجاع الكهنة:
لا هم ـ لا هم ...
لبيك يا ولي النعم
إن كان خيراً فهو منك ولك
تملكنا ولا نملك
فلا قضض
ولا رمد
تقبل وربة الأثر)).
وربة الأثر كما يقول فيسلون في الفصل الذي كتبه في كتاب ((تاريخ العرب القديم))، هي إلهة الشمس عند العرب والمسماة باللات.
غير
أن كتب التاريخ والأدب، وإن كانت لم تحفظ لنا إلا النزر اليسير من هذه
الطقوس وما كان يصاحبها من قول، فإنها في الوقت نفسه قد احتفظت لنا بأخبار
هذه الأصنام وأسمائها، وأسماء القبائل التي كانت تعبدها، وبعض العادات
العامة التي صاحبت عبادة الأصنام، وكذلك بعض الأساطير التي رويت حولها وحول
سر عبادة الناس لها.
يقول ابن هشام في كتابه السيرة النبوية، موضحاً ما
كان يفعله العرب بالأصنام: قال ابن إسحاق: ((واتخذ أهل كل دار في دارهم
صنماً يعبدونه، فإذا أراد الرجل منهم سفراً تمسح به حين يركب، فكان ذلك آخر
ما يصنع حين يتوجه إلى سفره، وإذا قدم من سفره تمسح به، فكان ذلك أول ما
يبدأ به قبل أن يدخل على أهله، فلما بعث الله رسوله محمداً (ص) بالتوحيد
قالت قريش: أجعل الآلهة إلهاً واحداً، إن هذا لشيء عجاب؟)).
ويقول ابن
إسحاق: ((وكانت العرب قد اتخذت مع الكعبة طواغيت، وهي بيوت تعظمها كتعظيم
الكعبة، لها سدنة وحجّاب، وتهدي لها كما تهدي للكعبة، وتطوف بها كواطفها
بها، وتنحر عندها، وهي تعرف فضل الكعبة عليها لأنها كانت تعرف أنها بيت
إبراهيم الخليل ومسجده)).
ويعدد لنا ابن هشام في السيرة النبوية القبائل
وأصنامها التي تعبدها: فقد كانت لقريش وبني كنانة ((العزى))، وكانت قريش
قد اتخذت صنماً على بئر في جوف الكعبة يقال له ((هبل))، وكانت ((اللات))
لثقيف في الطائف، وكانت ((مناة)) للأوس والخزرج ومن دان بدينهم من أهل
يثرب، وذو الكلاع من حمير اتخذوا نسراً بأرض حمير.
ولقد كانت لقوم نوح أصنام عكفوا عليها، قص الله تبارك وتعالى خبرها على رسوله (ص) ... فقال تعالى: (وقالوا لا تذرن آلهتكم، ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً، وقد أضلوا كثيرا ... ) صدق الله العظيم.
ويحكي
لنا ابن الكلبي في كتابه ((الأصنام)) عن هبل فيقول: ((وكان هبل أعظم أصنام
العرب التي في جوف الكعبة وحولها، وكان من عقيق أحمر على صورة إنسان مكسور
اليد اليمنى، أدركته قريش كذلك، فجعلوا له يداً من ذهب، وكان أول مَن نصبه
خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وكان يقال له هبل خزيمة وكانت تضرب عنده
القداح)).
ويروي لنا ابن الكلبي صورة من حرص العرب على أصنامهم وتقربهم إليها في حديث له عن العزى، حيث يقول:
((لقد بلغ من حرص قريش على عبادة العزى أنه لما مرض أبو أمية المرض الذي
مات فيه دخل عليه أبو لهب يعوده فوجده يبكي فقال له أبو لهب: ((ما يبكيك يا
أبا أمية؟ أمن الموت تبكي ولابد منه؟ فقال أبو أمية: ((الآن علمت أن لله
خليفة)). وواضح أنه قد أعجبه من أبي لهب شدة نصبه في عبادتها.
ليس
لنا إذن أن نعجب ونحن نرى كل هذا الحشد من الأصنام، وكل هذا التقديس لها
والتفاني في عبادتها، من ضياع كل ما كان حولها وحول عبادتها من تراث قولي
يبقي للعرب رصيداً من الأساطير والحكايات الخرافية.
الأمر أن الإسلام
جبَّ ما قبله بكل ما فيه، والأمر أن ذكر تاريخ الأصنام شيء، وذكر ما حولها
من أساطير وما صاحب عبادتها من إبداع قولي شيء آخر حرص الإسلام على إزالته
تماماً. وإذا كان الفن القولي المصاحب للعبادات الوثنية قد اندثر فإن كتب
السير والتاريخ، وكتب الأدب كذلك، أبقت لنا بعض الصور من الأعمال القولية
التي صاحبت هزيمة الوثنية واندحارها ... وهي في حد ذاتها تعطي دلالات على
نوع التصورات العقلية والوجدانية التي صاحبت العبادة الوثنية قبل الإسلام،
وإن خلت من تهاويل الأسطورة وتعقيداتها وشطحاتها في عالمي الخيال والوجدان.
يقول
ابن إسحاق: ((اتخذ العرب أسافاً ونائلة، على موضع زمزم ينحرون عندهما))،
ويعرفنا الألوسي وابن الكلبي بهذين الصنمين فيقول ابن الكلبي: ((كان أحد
هذين الصنمين أولاً يلصق في الكعبة والآخر في موضع زمزم، فنقلت قريش الذي
كان يلصق في الكعبة إلى الآخر)).
ونستكمل حديث ابن هشام عن أساف ونائلة يقول:
((وكان أساف ونائلة رجلاً وامرأة من جرهم ... هو أساف بن بغي، ونائلة بنت ديك ... أساف بنائلة في الكعبة فمسخهما الله حجرين.
هنا
ملامح أسطورة كاملة، ولكن كما نرى لم يبق إلا الخبر وحده ... ونجد صدى هذا
الحديث فيما نقله ابن هشام عن ابن إسحاق عن عائشة رضي الله عنها حيث قالت:
((ما زلنا نسمع أن أسافاً ونائلة كانا رجلا وامرأة من جرهم، أحدثا في الكعبة فمسخهما الله تعالى حجرين ... والله أعلم ... )).
ونحن
لو تتبعنا الطقوس التي كانت تمارس داخل معابد الأصنام لوجدنا أنها كفيلة
بخلق أساطير كثيرة، وأنها أيضاً كفيلة بخلق مجموعة من الحكايات الخرافية
والأعمال ذات الطابع الدراسي، كان يمكن أن تثري موروثنا من الأدب الأسطوري
ومن الأدب الشعبي على السواء ... ومن هذا ما كان يتبع مثلاً عند هبل، يقول
ابن هشام:
قال ابن إسحاق: كان هبل على بئر في جوف الكعبة، وكانت تلك
البئر هي التي يجمع فيها ما يهدي للكعبة .. وكان عند هبل سبعة أقداح، قدح
فيه نعم للأمر إذا أرادوه يضرب به القداح، فإن خرج قدح نعم عملوا به.
وبالطبع
هناك قدح لا، إذا أضربوا على أمر وخرج لهم امتنعوا عن فعل ذلك الأمر ...
وهناك أيضاً قدح فيه المياه إذا أرادوا أن يحضروا للماء ضربوا القدح فإذا
خرج لهم قدح المياه صرفوا وإلا لم يحفروا البئر.
ونعود إلى ابن هشام نستكمل معه حديث القداح.
قال
ابن إسحاق: ((كانوا إذا أرادوا أن يخنثوا غلاماً، أو يزوجوا رجلاً، أو
يدفنوا ميتاً، أو شكوا في نسب أحدهم، ذهبوا إلى هبل ومعهم مائة درهم
وذبيحة، فأعطوها صاحب القداح الذي يضرب بها
فيقول لهم صاحب القداح: ((قربوا الذبيحة هنا واذبحوها ... ثم قربوا صاحبكم
الذي تريدون أن تعرفوا أمره فيجيبونه قائلين: أما الذبيحة فها هي هدية منا
لهبل الإله الأعظم ... وأما ما نريده فهو معرفة نسب صاحبنا هذا هو منا أم
هو ليس منا، فيقول لهم صاحب القداح:
اعطوا الذبيحة للغلام ليذبحها
وليلطخ بدمائها أقدام هبل المعظم ... ثم تعالوا إليّ أعلمكم ما تقولون أمام
إلهكم لتعرفوا الأمر في صاحبكم.
فينادون هبل قائلين:
((يا إلهنا، هذا صاحبنا زيد بن عمرو، أردنا أن نعرف الحق فيه: أهو منا أم ليس منا وقد أدخل نسبه علينا إدخالا)).
فيقول لهم صاحب القداح: ((سأضرب بالقداح فإن خرج القدح الذي فيه (منكم)
كان صاحبكم منكم خالص النسب شريفاً فيكم ... فإن خرج القدح الذي عليه (من
غيركم) كان لكم حليفاً، فإن خرج القدح الذي عليه ملصق فهو لا نسب له ولا
حلف)).
يقول ابن إسحاق: إن خرج لهم ((نعم)) في أمر عملوا به، وإن خرج
((لا))، أقروه عامهم ذلك، حتى يأتوا به مرة أخرى إلى هبل ... ينتهون في
أمورهم إلى ذلك مما خرجت به القداح.
وترد عادة ضرب القداح عند هبل هذه بطريقة أخرى في كتاب ((بلوغ الأرب في أحوال العرب)) للألوسي إذ يقول:
((كانوا
إذا قصدوا فعلاً أو أمراً ضربوا ثلاثة أقداح مكتوب على أحدها أمرني ربي،
وعلى الآخر نهاني ربي، والثالث غفل لا شيء عليه، فإن خرج الآمر مضوا على
ذلك، وإن خرج الناهي تجنبوا عنه، وإن خرج الغفل أجالوا ثانية))، ولعلهم
كانوا يستعملون في القداح عند هبل الطريقتين.
وما كنا لنعرف كل هذه
الطقوس وما صاحبها من ابتهالات وأدعية وأسجاع (هي ما عرفت بـ ((سجع
الكهان)) ) مما ورد في كثير من كتب التاريخ والأدب لولا أن أديب الأسطورة
العربية احتاج إليها في فترة مهمة من فترات الحياة العربية .. تلك هي فترة
التمهيد للإسلام، فكان لابد للأديب العربي لكي يدخل الإسلام إلى قلوب أبناء
الجزيرة أن يستعمل فنه وأدبه في إثبات ما انتهى إليه أمر عبادة الأوثان
والأصنام والنجوم والجن والديانات الأخرى من إقرار بفساد الأمر كله،
وبالحاجة إلى عبادة جديدة تنسخ هذا الذي يعيشون من إفك، ويمهد لما يقبل من
نور وإشراق. وكان لابد من أن يتقدم الأديب العربي بقلمه ليعيد القلوب
النافرة وليأخذها من ظلام الشرك إلى نور اليقين.
وهكذا استغل أديب
الأسطورة العربية هذه العادات والعبادات، ولم يتحرج من ذكرها في فترة مهمة
من فترات التاريخ العربي، تلك هي الفترة التي سبقت ظهور الإسلام. وما كنا
لنعرف أمر هبل والقداح، لولا أنها تلعب دوراً كبيراً في سيرة عبدالمطلب
وابنه عبدالله وحفره لبئر زمزم وفدائه لعبدالله استنقاذاً له من قداح هبل
...
* المصدر : ادب الاسطورة عند العرب
الأسطورة العقائدية
يحمل لنا القرآن آية تدل على وجود الأساطير الطقوسية عند العرب، فقد قال تعالى: (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية).
تؤكد
هذه الآية الكريمة أن مرحلة الغناء والرقص المصاحب للعبادات الطقوسية قد
عرفها العرب كما عرفها غيرهم، ولكن بينما احتفظ غيرهم بها ذابت عند العرب
ولم يعد منها إلا ما قد تدلنا عليه بعض أسجاع الكهنة المتبقية في كتب
التاريخ والسيرة والأدب.
((وعلى توقيع الدفوف والصفير تقول إحدى أسجاع الكهنة:
لا هم ـ لا هم ...
لبيك يا ولي النعم
إن كان خيراً فهو منك ولك
تملكنا ولا نملك
فلا قضض
ولا رمد
تقبل وربة الأثر)).
وربة الأثر كما يقول فيسلون في الفصل الذي كتبه في كتاب ((تاريخ العرب القديم))، هي إلهة الشمس عند العرب والمسماة باللات.
غير
أن كتب التاريخ والأدب، وإن كانت لم تحفظ لنا إلا النزر اليسير من هذه
الطقوس وما كان يصاحبها من قول، فإنها في الوقت نفسه قد احتفظت لنا بأخبار
هذه الأصنام وأسمائها، وأسماء القبائل التي كانت تعبدها، وبعض العادات
العامة التي صاحبت عبادة الأصنام، وكذلك بعض الأساطير التي رويت حولها وحول
سر عبادة الناس لها.
يقول ابن هشام في كتابه السيرة النبوية، موضحاً ما
كان يفعله العرب بالأصنام: قال ابن إسحاق: ((واتخذ أهل كل دار في دارهم
صنماً يعبدونه، فإذا أراد الرجل منهم سفراً تمسح به حين يركب، فكان ذلك آخر
ما يصنع حين يتوجه إلى سفره، وإذا قدم من سفره تمسح به، فكان ذلك أول ما
يبدأ به قبل أن يدخل على أهله، فلما بعث الله رسوله محمداً (ص) بالتوحيد
قالت قريش: أجعل الآلهة إلهاً واحداً، إن هذا لشيء عجاب؟)).
ويقول ابن
إسحاق: ((وكانت العرب قد اتخذت مع الكعبة طواغيت، وهي بيوت تعظمها كتعظيم
الكعبة، لها سدنة وحجّاب، وتهدي لها كما تهدي للكعبة، وتطوف بها كواطفها
بها، وتنحر عندها، وهي تعرف فضل الكعبة عليها لأنها كانت تعرف أنها بيت
إبراهيم الخليل ومسجده)).
ويعدد لنا ابن هشام في السيرة النبوية القبائل
وأصنامها التي تعبدها: فقد كانت لقريش وبني كنانة ((العزى))، وكانت قريش
قد اتخذت صنماً على بئر في جوف الكعبة يقال له ((هبل))، وكانت ((اللات))
لثقيف في الطائف، وكانت ((مناة)) للأوس والخزرج ومن دان بدينهم من أهل
يثرب، وذو الكلاع من حمير اتخذوا نسراً بأرض حمير.
ولقد كانت لقوم نوح أصنام عكفوا عليها، قص الله تبارك وتعالى خبرها على رسوله (ص) ... فقال تعالى: (وقالوا لا تذرن آلهتكم، ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً، وقد أضلوا كثيرا ... ) صدق الله العظيم.
ويحكي
لنا ابن الكلبي في كتابه ((الأصنام)) عن هبل فيقول: ((وكان هبل أعظم أصنام
العرب التي في جوف الكعبة وحولها، وكان من عقيق أحمر على صورة إنسان مكسور
اليد اليمنى، أدركته قريش كذلك، فجعلوا له يداً من ذهب، وكان أول مَن نصبه
خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وكان يقال له هبل خزيمة وكانت تضرب عنده
القداح)).
ويروي لنا ابن الكلبي صورة من حرص العرب على أصنامهم وتقربهم إليها في حديث له عن العزى، حيث يقول:
((لقد بلغ من حرص قريش على عبادة العزى أنه لما مرض أبو أمية المرض الذي
مات فيه دخل عليه أبو لهب يعوده فوجده يبكي فقال له أبو لهب: ((ما يبكيك يا
أبا أمية؟ أمن الموت تبكي ولابد منه؟ فقال أبو أمية: ((الآن علمت أن لله
خليفة)). وواضح أنه قد أعجبه من أبي لهب شدة نصبه في عبادتها.
ليس
لنا إذن أن نعجب ونحن نرى كل هذا الحشد من الأصنام، وكل هذا التقديس لها
والتفاني في عبادتها، من ضياع كل ما كان حولها وحول عبادتها من تراث قولي
يبقي للعرب رصيداً من الأساطير والحكايات الخرافية.
الأمر أن الإسلام
جبَّ ما قبله بكل ما فيه، والأمر أن ذكر تاريخ الأصنام شيء، وذكر ما حولها
من أساطير وما صاحب عبادتها من إبداع قولي شيء آخر حرص الإسلام على إزالته
تماماً. وإذا كان الفن القولي المصاحب للعبادات الوثنية قد اندثر فإن كتب
السير والتاريخ، وكتب الأدب كذلك، أبقت لنا بعض الصور من الأعمال القولية
التي صاحبت هزيمة الوثنية واندحارها ... وهي في حد ذاتها تعطي دلالات على
نوع التصورات العقلية والوجدانية التي صاحبت العبادة الوثنية قبل الإسلام،
وإن خلت من تهاويل الأسطورة وتعقيداتها وشطحاتها في عالمي الخيال والوجدان.
يقول
ابن إسحاق: ((اتخذ العرب أسافاً ونائلة، على موضع زمزم ينحرون عندهما))،
ويعرفنا الألوسي وابن الكلبي بهذين الصنمين فيقول ابن الكلبي: ((كان أحد
هذين الصنمين أولاً يلصق في الكعبة والآخر في موضع زمزم، فنقلت قريش الذي
كان يلصق في الكعبة إلى الآخر)).
ونستكمل حديث ابن هشام عن أساف ونائلة يقول:
((وكان أساف ونائلة رجلاً وامرأة من جرهم ... هو أساف بن بغي، ونائلة بنت ديك ... أساف بنائلة في الكعبة فمسخهما الله حجرين.
هنا
ملامح أسطورة كاملة، ولكن كما نرى لم يبق إلا الخبر وحده ... ونجد صدى هذا
الحديث فيما نقله ابن هشام عن ابن إسحاق عن عائشة رضي الله عنها حيث قالت:
((ما زلنا نسمع أن أسافاً ونائلة كانا رجلا وامرأة من جرهم، أحدثا في الكعبة فمسخهما الله تعالى حجرين ... والله أعلم ... )).
ونحن
لو تتبعنا الطقوس التي كانت تمارس داخل معابد الأصنام لوجدنا أنها كفيلة
بخلق أساطير كثيرة، وأنها أيضاً كفيلة بخلق مجموعة من الحكايات الخرافية
والأعمال ذات الطابع الدراسي، كان يمكن أن تثري موروثنا من الأدب الأسطوري
ومن الأدب الشعبي على السواء ... ومن هذا ما كان يتبع مثلاً عند هبل، يقول
ابن هشام:
قال ابن إسحاق: كان هبل على بئر في جوف الكعبة، وكانت تلك
البئر هي التي يجمع فيها ما يهدي للكعبة .. وكان عند هبل سبعة أقداح، قدح
فيه نعم للأمر إذا أرادوه يضرب به القداح، فإن خرج قدح نعم عملوا به.
وبالطبع
هناك قدح لا، إذا أضربوا على أمر وخرج لهم امتنعوا عن فعل ذلك الأمر ...
وهناك أيضاً قدح فيه المياه إذا أرادوا أن يحضروا للماء ضربوا القدح فإذا
خرج لهم قدح المياه صرفوا وإلا لم يحفروا البئر.
ونعود إلى ابن هشام نستكمل معه حديث القداح.
قال
ابن إسحاق: ((كانوا إذا أرادوا أن يخنثوا غلاماً، أو يزوجوا رجلاً، أو
يدفنوا ميتاً، أو شكوا في نسب أحدهم، ذهبوا إلى هبل ومعهم مائة درهم
وذبيحة، فأعطوها صاحب القداح الذي يضرب بها
فيقول لهم صاحب القداح: ((قربوا الذبيحة هنا واذبحوها ... ثم قربوا صاحبكم
الذي تريدون أن تعرفوا أمره فيجيبونه قائلين: أما الذبيحة فها هي هدية منا
لهبل الإله الأعظم ... وأما ما نريده فهو معرفة نسب صاحبنا هذا هو منا أم
هو ليس منا، فيقول لهم صاحب القداح:
اعطوا الذبيحة للغلام ليذبحها
وليلطخ بدمائها أقدام هبل المعظم ... ثم تعالوا إليّ أعلمكم ما تقولون أمام
إلهكم لتعرفوا الأمر في صاحبكم.
فينادون هبل قائلين:
((يا إلهنا، هذا صاحبنا زيد بن عمرو، أردنا أن نعرف الحق فيه: أهو منا أم ليس منا وقد أدخل نسبه علينا إدخالا)).
فيقول لهم صاحب القداح: ((سأضرب بالقداح فإن خرج القدح الذي فيه (منكم)
كان صاحبكم منكم خالص النسب شريفاً فيكم ... فإن خرج القدح الذي عليه (من
غيركم) كان لكم حليفاً، فإن خرج القدح الذي عليه ملصق فهو لا نسب له ولا
حلف)).
يقول ابن إسحاق: إن خرج لهم ((نعم)) في أمر عملوا به، وإن خرج
((لا))، أقروه عامهم ذلك، حتى يأتوا به مرة أخرى إلى هبل ... ينتهون في
أمورهم إلى ذلك مما خرجت به القداح.
وترد عادة ضرب القداح عند هبل هذه بطريقة أخرى في كتاب ((بلوغ الأرب في أحوال العرب)) للألوسي إذ يقول:
((كانوا
إذا قصدوا فعلاً أو أمراً ضربوا ثلاثة أقداح مكتوب على أحدها أمرني ربي،
وعلى الآخر نهاني ربي، والثالث غفل لا شيء عليه، فإن خرج الآمر مضوا على
ذلك، وإن خرج الناهي تجنبوا عنه، وإن خرج الغفل أجالوا ثانية))، ولعلهم
كانوا يستعملون في القداح عند هبل الطريقتين.
وما كنا لنعرف كل هذه
الطقوس وما صاحبها من ابتهالات وأدعية وأسجاع (هي ما عرفت بـ ((سجع
الكهان)) ) مما ورد في كثير من كتب التاريخ والأدب لولا أن أديب الأسطورة
العربية احتاج إليها في فترة مهمة من فترات الحياة العربية .. تلك هي فترة
التمهيد للإسلام، فكان لابد للأديب العربي لكي يدخل الإسلام إلى قلوب أبناء
الجزيرة أن يستعمل فنه وأدبه في إثبات ما انتهى إليه أمر عبادة الأوثان
والأصنام والنجوم والجن والديانات الأخرى من إقرار بفساد الأمر كله،
وبالحاجة إلى عبادة جديدة تنسخ هذا الذي يعيشون من إفك، ويمهد لما يقبل من
نور وإشراق. وكان لابد من أن يتقدم الأديب العربي بقلمه ليعيد القلوب
النافرة وليأخذها من ظلام الشرك إلى نور اليقين.
وهكذا استغل أديب
الأسطورة العربية هذه العادات والعبادات، ولم يتحرج من ذكرها في فترة مهمة
من فترات التاريخ العربي، تلك هي الفترة التي سبقت ظهور الإسلام. وما كنا
لنعرف أمر هبل والقداح، لولا أنها تلعب دوراً كبيراً في سيرة عبدالمطلب
وابنه عبدالله وحفره لبئر زمزم وفدائه لعبدالله استنقاذاً له من قداح هبل
...
* المصدر : ادب الاسطورة عند العرب