تنتمي اللغة الكوردية إلى فصيلة اللغات الهندواوربية، قسم اللغات
الهندوإيرانية، أما الصلة التي تربط اللغة الكوردية بهذه المجموعة اللغوية،
فهي بالإضافة إلى وجود آلاف من المفردات الأفستية والبهلوية والفارسية
القديمة في اللغة الكوردية، وجود القواعد اللغوية المتقاربة من حيث تصريف
الأفعال وتركيب الجمل وكذلك من حيث التغيرات الدلالية وعلم الأصوات
اللغوية، و تقسيم الكلام إلى مقاطع، إلا أن هذا الانتماء إلى هذه المجموعة
اللغوية لا يعني بأي حال من الأحوال عدم استقلال اللغة الكوردية بين لغات
العالم الحية. وبالرغم من التشابهات الكثيرة بينها وبين لغات هذه المجموعة
من النواحي المذكورة، إلا أن لها أصولها وقواعدها وتطوراتها ودلالاتها
واشتقاقاتها الخاصة، وهي ليست فرعاً من أي لغة أخرى. فمع الإقرار بوجود
قرابة لغوية بينها وبين الفارسية الحالية مثلاً، إلا أنها لغة خاصة، حافظت
على استقلاليتها، بدليل جميع الدراسات الصوتية والأثنوغرافية والدراسات
المقارنة التي قام بها العالمان الألمانيان (روديجر) و(بوت) 1840م، إذ
أثبتا نتيجة دراسات متواصلة في المقارنة اللغوية بين الكلمات الكوردية
واللغات الإيرانية، على أن الكوردية بقواعدها ومفرداتها وأصولها وأصواتها،
لغة خاصة مستقلة رغم انتمائها إلى اللغات الإيرانية.
وأيد هذا الرأي، بعد ذلك، المستشرق الروسي (بيتر ليرخ) في أبحاثه القيمة
التي نشرها بعنوان: (دراسات عن الكورد) باللغتين الروسية والألمانية في
العامين 1857 و 1858 في سان بترسبورك (ليننغراد)، وكذلك بحثه القيم:
(دراسات عن كورد إيران) 1856 فيبترسبورك باللغة الروسية. وأيد هذا الرأي
أيضاً مستشرقون بارزون، أمثال: (رينان)، و(دورن وارش)، و(ميولر)، و(جابا).
يقول الميجر (أدموندس) الأخصائي في تأريخ الكرد في مقالة له نشرت في مجلة
(جمعية آسيا الوسطى) - العدد (11): ((أصبح من الوضوح بمكان أن اللغة
الكوردية، ليست عبارة عن لهجة فارسية محرفة مضطربة، بل إنها لغة آرية نقية
معروفة لها مميزاتها الخاصة وتطوراتها القديمة)).
وكذلك فإن (مينورسكي) البحاثة المختص باللغات الشرقية، يؤكد ذلك، ويعتقد
أنه بينما تنتمي اللغة الفارسية إلى المجموعة الجنوبية الغربية، فإن اللغة
الكوردية تنتمي إلى المجموعة الشمالية الغربية، وأنها تتصف بشخصية متميزة
تماماً عن اللغة الفارسية، ويورد الدلائل اللغوية التي تثبت الفروق القائمة
بين كل منهما.
أصل اللغة الكوردية
لدراسة أصل اللغة الكوردية، يجب مراجعة أقدم المؤلفات المكتوبة باللغات
الإيرانية، ولعل أقدم هذه المؤلفات، هو كتاب آفستا (كتاب الديانة
الزرادشتية)، والذي كتب في حوالي القرن السابع قبل الميلاد.
ولد زرادشت في أورمية (مدينة الرضائية الحالية)،أصله كوردي، وهو النبي
الآري، من أهل ماد ومن طائفة ماز؛ نادى بعبادة (أهورا مزدا)،الإله العارف
بكل شيء، ليكون إلهاً لجميع الطوائف البشرية، إلا أنه لقي من قومه عذاباً
كبيراً، فهاجر شرقاً إلى بلاد الملك (كشتاسب) في بلخ، وأدخل الملك ورعيته
في دينه، حتى أنهم دافعوا في سبيل هذا الدين بضراوة، فانتشر رويداً رويداً.
ولكن الإيرانيين لم يكونوا كلهم على دين زرادشت حتى نهاية عهد
الهخنمتسيينو الاشكانيين، ولم تصبح الزرادشتية ديناً رسمياً للدولة، إلا في
زمن الساسانيين.
وتدل الدراسات التاريخية على أن ما وصلنا من كتب زرادشت، نزر قليل مما كانت
عليه، فقد ذكر (المسعودي) في (مروج الذهب) أن الأبستاق، أي الآفستا كتب في
إثني عشر ألف مجلد بالذهب، فيه وعد ووعيد وأمر ونهي وغير ذلك من الشرائع
والعبادات، لم تزل الملوك تعمل بما في هذا الكتاب إلى عهد الاسكندر، الذي
أحرق بعضاً من هذا الكتاب. وقد ذكر ذلك (تنسر) رئيس علماء الدين في عهد
أردشير بابك في رسالته إلى جسنف شاه ملك طبرستان: ((تعلم أن الاسكندر أحرق
كتاب ديننا البالغ اثني عشر ألف جلد بقرة في اصطغر، وكان قد بقي منه ثلث
الصدور وذلك أيضاً كله قصص وأحاديث)).
أما الدكتور (محمد معين)، فيقول، أن بلينيوس الروماني من مؤرخي القرن الأول
الميلادي، نقل عن هرميبوسس المؤرخ اليوناني الذي عاش في القرن الثالث قبل
الميلاد، إنه قرأ مذهب الإيرانيين في كتابهم الديني الذي نظمه زرادشت في
ألف بيت.
وفي الشاهنامه، يذكر أن فصول الآفستا البالغ عددها ألفاً ومئتي فصل، كانت
مكتوبة على لوحة من الذهب. ويذكر العالم الانجليزي (وست) بأن الآفستا كان
يتكون من (345700) كلمة لم يبق منها اليوم غير (83000) كلمة في الآفستا
الحالي، أي أقل من ربع الأصل.
وأجزاء الأفستا خمسة: (يسنا)،و(ويسبرد)، و(ونديداد)،و(يشتها)، و(خرده
اوستا). ونحن لا يهمنا في هذه العجالة غير جزء (يسنا) وذلك لصلته الوثيقة
ببحثنا هذا، إذ يتكون من (72) فصلاً من بينها (17) فصلاً تعرف بـ(كاتها)،
وتعد من أقدم أجزاء الآفستا، لأن من المعتمد بأنها من كلام زرادشت نفسه.
ومعنى كلمة (كاتها) ومفردهاكات: النشيد أو المنظومة التي تتخلل الشعر،
فكلها كتبت بلغة الشعر، ولكنه شعر ليس كالشعر الإيراني الحديث، الذي ينظم
على أوزان العروض العربية، بل هو أقرب إلى شعر الأقوام الهندوأوروبي.
وتتكون فصول كاتها من خمسة أقسام: (هنود أو هونيقه يتي)، و(اشتود أو اشتاقه
يتي)، و(سبينتمد أو سبينتا ميو)، و(هوخشند أو فوهوخشترا)، و(هيشتواشت أو
فوهيسشتوات). أما عدد قطع كاتها فهو (238) قطعة، وعدد أبياتها (896) بيتاً،
وكلماتها (5560) كلمة. وتشير الدراسات اللغوية الحديثة إلى أن هناك
تقارباً لغوياً وصلة وثيقة بين اللغة التي كتبت بها كاتها، واللغة الكوردية
الحالية، إذ نجد أن الفصول البالغة (17) فصلاً كتبت باللغة الميدية.
ويقول العلامة(إحسان نوري) بان كلمة زرادشت نفسها هي كلمة كوردية أصيلة:
((كانوا يسمون زرادشت بزرتوشرا سبي تمه،ويأتي بمعنى زرادشت بياض الأصل،
وهذه الألفاظ التي كانت من لغة قوم زرادشت، أي لغة ماد نسبة إلى
الميديين،ليست لها فروق أساسية مع اللغة الكوردية الحالية...))، علماً أن
(زرتوشرا سبي تمه)، في اللغة الكوردية تعني الشعاع الذهبي للشمس البيضاء.
الكورد والميديا
تدل جميع الدراسات الأثنوغرافية الحالية على أن الأمة الكوردية هي من
السلالات الميدية، ولعل من أكبر المستشرقين الذين دافعوا عن هذا الرأي
هوالعلامة (مينورسكي). ويقول الأستاذ (احسان نوري) بهذا الصدد: ((في
الحقيقة مع أن الألفاظ والكلمات الميدية قد اختلطت بالكلمات والألفاظ
الطورانية والسامية من جهة، ومرت عليها عصور مختلفة أحدثت فيها تغييرات
كبيرة، لا يمكن نكرانها أو اجتنابها من جهة أخرى، ولكنها مع ذلك هي أقرب
إلى اللغة الكوردية من أي لغة أخرى)). ويتفق الأستاذ (ديرك كينين) مع هذا
الرأي أيضاً، ويقول: ((إن اللغة الكوردية متفرعة من اللغة الميدية، حيث
يعتبر الميديون أصلا رئيساً للكورد)).
وقد أيد هذا الرأي كثير من المؤلفين العرب أيضاً، نذكر منهم الدكتور (محمد
السيد غلاب)، أستاذ الأنثروبولوجيا بجامعة القاهرة، بقوله: ((وقد ظلت أرض
الجزيرة وشمال العراق تستقبل هجرات البدو الهندية الأوروبية من وسط آسيا،
بما تحمله من صفة الشقرة، وهذه المنطقة هي وطن الكورد في الوقت الحاضر، وهم
سلالة الميديين القديمة التي ظهرت في الألف الأول قبل الميلاد، وتنتشر
بينهم صفات الشقرة بشكل واضح، وهم يتحدثون لغة هندية أوروبية، ويحتلون
منطقة الحدود المشتركة بين العراق وإيران وتركيا)).
وهكذا، نتوصل أخيراً إلى نتيجة حتمية، وهي أن أقدم المؤلفات الكوردية
قاطبة، والتي وجدت حتى الآن، هي الجزء (كاتها) من كتاب (آفستا)، الذي كتب
في القرن السابع قبل الميلاد، استناداً إلى أن زرادشت نفسه كان ميدياً،
وكان يتكلم لغة الميديين، وأن الميديين هم كورد اليوم. وقد كتب عن هذا
الرأي أيضاً ميجر(سيون) الحاكم البريطاني، والضليع باللغة الكوردية، فقد
كتب في تقريره عن لواء السليمانية مايلي: ((وقد صار من المسلم به، أن
زرادشت الذي كان يتكلم اللغة الميدية الأخيرة، قد ولد في شمال مقاطعة
ميدية، وهي الآن معروفة بمقاطعة مُكري، ولغة زرادشت هذه، كما نراها في زند
آفستا قريبة جداً من اللهجة الموكرية الكوردية الحالية)).